الخميس، أكتوبر 08، 2009

"مسجد الاستقلال" في إندونيسيا.. شمس لا تغيب وقت المغيب

بدا في ملامحه المعمارية كأنه هيئة حكومية، أو منظمة دولية، أو مؤسسة مالية، أو شركة بترولية، ولا يخطر على بال أحد أنه أكبر المساجد الإندونيسية. المشهد من خارجه غريب، ومن داخله مهيب، أعمدته عالية، ومساحاته خيالية، وكل شيء فيه ينطق بالتقدم والعصرية.

ظهرت فكرة إنشاء مسجد جامع في إندونيسيا بعد الاستقلال مباشرة سنة ،1949 وصاحب الفكرة هو وحيد حازم أول وزير للشؤون الدينية، وأنور كوكرو مينونو الذي تولى رئاسة مجلس إدارة المسجد بعد إنشائه. تم تأسيس لجنة للمشروع سنة ،1953 وأعلن الرئيس الإندونيسي الراحل أحمد سوكارنو تحمسه للفكرة سنة ،1954 وتم عرض تصميمه في مسابقة دولية سنة 1955 فاز فيها تصميم أعده مهندس مسيحي.

وضع سوكارنو حجر الأساس للمسجد في 24 أغسطس/آب ،1961 واكتمل البناء في عهد الرئيس سوهارتو في 22 فبراير 1978 (استغرق البناء 17 سنة). يقع المسجد في وسط مدينة جاكرتا، ويستوعب 120 ألفا من المصلين، وللمسجد قبتان، قطر الكبرى 45 مترا، وتقع أعلى ساحة الصلاة، والصغرى قطرها 20 مترا، وتقع أعلى مدخل المسجد، وأعلى القبة هلال بداخله نجمة.يبلغ ارتفاع المئذنة 90 مترا، وهي اسطوانية أعلاها شرفة صغيرة، فوقها مخروط رشيق.

سورة طه

بلغت تكاليف المسجد 7 مليارات روبية (12 مليون يورو)، ويشتمل على منشآت وقاعات وفصول دراسية وإدارات للخدمات، وفي الخارج حدائق وبحيرة ونافورة وأسواق تجارية. ويتكون المسجد من أربعة طوابق فوق قاعة الصلاة الرئيسية وتفتح عليها، ومن حول القبة الكبرى 12عمودا اسطوانيا تحمل سقف المسجد. وعلى حائط القبلة تنتشر الزخارف الإسلامية وتتركز داخل المحراب ومن حوله وأيضا على المنبر. على الجانب الأيمن للمحراب لوحة خطية تحمل لفظ الجلالة (الله)، واسم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (محمد)، وبينهما الآية الكريمة رقم 14 من “سورة طه”: “إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري”.

التجار والرحالة

دخل الإسلام إلى الجزر الإندونيسية نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، عبر جزيرتي جاوة وسومطرة، على أيدي التجار والرحالة القادمين من الهند والدول العربية. لم ينتشر الإسلام في هذه البلاد البعيدة بالمعارك والفتوحات، لكنه انتشر بالأسوة الحسنة، والخلق القويم، والسلوك المستقيم. صمد الإسلام في القلوب على مدار خمسة قرون، هي فترة الاحتلال البرتغالي والهولندي، حتى إعلان الجمهورية الإندونيسية في أغسطس عام 1945.
تلعب المساجد الإندونيسية دورا كبيرا في حياة المسلمين، اجتمعت فيها الصلوات مع الخدمات، وسبقت الأعمال الأقوال، نظمت الفصول والحلقات الدراسية في علوم الدين وحفظ القرآن الكريم، وتعليم اللغة العربية. ولا يتبع مسجد الاستقلال وسائر المساجد الإندونيسية أية وزارة، أو جهة حكومية، فللمساجد إدارات خاصة تدير أعمالها، وتنظم برامجها ومواردها.

يضم مسجد الاستقلال وسائر المساجد الإندونيسية مدارس لتعليم الدين الإسلامي، وحفظ القرآن الكريم بعد انتهاء اليوم الدراسي في المدارس الحكومية، وتنتشر مراكز الدعوة الإسلامية في طول البلاد وعرضها لشرح مبادئ الدين الإسلامي، والمسجد بهذا المعنى دار للعبادة، وهيئة خيرية ترعى أحوال الرعية، وتساعد الفقراء والمحتاجين. وفي “مسجد الاستقلال” لجان للصلح تسعى لإصلاح ذات البين بين الأسر والأفراد.

دورات للحج

ينظم مسجد الاستقلال وغيره من المساجد الإندونيسية الكبرى دورات للحج والعمرة ، يتم فيها شرح شعائر الحج، وترتيبها، وحسن أدائها، والانضباط والأدب في القيام بها، والاهتمام بنظافة الأماكن المقدسة، وحسن معاملة زوار بيت الله الحرام. وتقف هذه الدورات خلف السمعة الطيبة التي يتمتع بها الحجاج الإندونيسيون، وللمسجد الإندونيسي دور تربوي كبير في إعداد المواطن المسلم، الذي يعرف تعاليم دينه، ويرتبط به المواطنون عامة والشباب خاصة بالخدمات العديدة التي يقدمها لرواده. يتردد على مسجد الاستقلال بجاكرتا عشرات الآلاف من المصلين من المواطنين الإندونيسيين، وأبناء الجاليات الإسلامية.

وإندونيسيا هي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان (242 مليون نسمة). يؤدي رواد المسجد صلواتهم في زي خاص بالصلاة خاصة السيدات، وفي محلات الملابس الكبرى أجنحة خاصة لملابس المحجبات، وتتنافس هذه المحلات في عرض هذا الزي الذي يجمع بين الأناقة والاحتشام.

طراز خاص

وتنتشر معاهد إعداد الأئمة والدعاة، في جميع أنحاء إندونيسيا، وتظهر اللافتات عليها باللغة العربية إلى جانب اللغة المحلية، كما تنتشر المؤسسات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين، فلا مكان لجائع أو محتاج في ديار الإسلام. يعيش المجتمع الإندونيسي في مودة وسلام، بفضل روح التسامح التي يدعو لها الإسلام، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده كما قال خير الأنام عليه الصلاة والسلام. اعتنق المواطن الإندونيسي الإسلام بكامل إرادته، ويواصل الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. ازدهر الإسلام خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وصمد أمام جميع للمحاولات للنيل منه. والداعية الإسلامي الإندونيسي من طراز خاص، يبدو في مظهر عصري غير تقليدي، تخلى عن الأساليب القديمة، واعتمد على الوسائل والمناهج العصرية، يخاطب الشباب بلغتهم وطريقتهم.

قاعات للنساء

وجاكرتا هي عاصمة إندونيسيا، ومعناها باللغة المحلية المدينة القوية، أو التي لا تقهر. في هذه البلاد البعيدة التي تقع في أقصى شرق الكرة الأرضية يتردد الأذان في السهول والوديان، ويرتفع اللسان بآيات القرآن، فتخشع القلوب، وتنصت الآذان “فبأي آلاء ربكما تكذبان”.

و”مسجد الاستقلال” هو أكبر مساجد جنوب شرق آسيا، ومن أكبر مساجد العالم، وبه شرفات أو قاعات للصلاة خاصة بالنساء، لا تقع في الخلف كما هو الحال في مساجد العالم العربي، ولكن تقع في الأمام. ساهم المسجد بدور كبير في عمارة الدنيا في الجزر الإندونيسية، وفي القارة الآسيوية، وسائر بقاع الكرة الأرضية، بنشر الدعوة الإسلامية، أيضاً بفنونه المعمارية وأعماله الخيرية.

يقع “مسجد الاستقلال” على بعد آلاف الأميال من الكعبة المشرفة، ومكة المكرمة والمدينة المنورة، لكنه يقوم بدوره على أكمل وجه في إقامة شعائر الدين وخدمة المسلمين، شمس متجددة تضيء القلوب والعقول بنور الإسلام، وهي شمس لا تغيب حتى إذا مالت شمس الدنيا إلى المغيب.

0 comments:

إرسال تعليق